فصل: ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  ثم دخلت سنة أربع وأربعين وستمائة

ذكر كسرة الخوارزمية على القصب واستيلاء الصالح أيوب على بعلبك‏:‏ كنا قد ذكرنا اتفاق الخوارزمية مـع الصالـح إسماعيـل والناصـر داود ومحاصرتهـم دمشـق وبهـا حسام الدين بن أبي علي ولما وقع ذلك اتفق الحلبيون والملك المنصور إبراهيم صاحب حمص وصاروا مع الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل وقصدوا الخوارزمية فرحلت الخوارزمية عن دمشـق وسـاروا إلـى نحو الحلبيين وصاحب حمص والتقوا على القصب في هذه السنة فانهزمت الخوارزمية هزيمة قبيحة تشتت شملهم بعدها وقتل مقدمهم حسام الدين بركة خان وحمـل رأسه إلى حلب ومضت طائفة مـن الخوارزمييـن مـع مقدمهـم كشلوخـان الخوارزمـي فلحقـوا بالتتر وصـاروا معهـم وانقطـع منهـم جماعـة وتفرقـوا فـي الشـام وخدمـوا بـه وكفـا اللـه النـاس شرهم‏.‏

ولما وصل خبر كسرتهم إلى الملك الصالح أيوب بديار مصر فرح فرحاً عظيماً ودقت البشائر بمصر وزال ما كان عنده من الغيظ على إبراهيـم صاحـب حمـص وحصـل بينهمـا التصافـي بسبـب ذلـك وأمـا الصالـح إسماعيـل فإنـه سـار إلـى الملـك الناصر يوسف صاحب حلب واستجار به وأرسل الصالح أيوب يطلبه فلم يسلمه الملك الناصر إليه ولما جرى ذلك رحل حسام الدين بن أبي علي الهذباني بمن عنده من العسكر بدمشق ونازل بعلبك وبها أولـاد الصالح إسماعيل وحاصرها وتسلمها بالأمان وحمل أولاد الصالح إسماعيل إلى الملـك الصالـح أيوب بديـار مصـر فاعتقلـوا هنـاك وكذلـك بعـث بأميـن الدولـة وزيـر الملـك الصالـح إسماعيـل وأستاذ داره ناصر الديـن يغمـور فاعتقـلا بمصـر أيضـاً وزينـت القاهـرة ومصـر ودقـت البشائـر بهمـا لفتـح بعلبـك واتفـق فـي هـذه الأيام وفاة صاحب عجلون وهو سيف الدين بن قليج‏:‏ فتسلم الملك الصالح أيوب عجلون أيضاً ولما جرى ما ذكرناه أرسل الملك الصالح أيوب عسكراً مع الأميـر فخـر الديـن يوسـف ابـن الشيـخ وكـان فخـر الدين ابن الشيخ قد اعتقله الملك العادل أبو بكر ابن الملك الكامل ثم لما ملك الملك الصالح أيوب مصر أفرج عنه وأمره بملازمة بيته فلازمه مدة ثم قدمه في هذه السنة على العسكر وجهزه إلى حـرب الملـك الناصـر داود صاحـب الكـرك فسـار فخر الدين المذكور واستولى على جميع بلاد الملك الناصر وولي عليها وسار إلى الكرك وحاصرها وخرب ضياعها وضعف الملك الناصر ضعفاً بالغاً ولم يبق بيده غير الكرك وحدها‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة حبس الصالح أيوب مملوكه بيبرس وهو الذي كان معه لما اعتقل في الكرك وسببه أن بيبرس المذكور مال إلى الخوارزمية وإلى الناصر داود وصار معهم على أستاذه لما جرده إلى غزة كما تقدم ذكره فأرسل أستاذه الصالح أيوب واستماله فوصل إليه فاعتقله في هذه السنة وكان آخر العهد به‏.‏

وفيها أرسل الملك المنصور إبراهيم صاحـب حمـص بـن شيركـوه وطلـب دستـوراً مـن الملـك الصالـح أيوب ليصل إلى بابه وينتظم في سلك خدمته وكان قد حصل بإبراهيم المذكور السل وسـار علـى تلـك الحالـة مـن حمص متوجهاً إلى الديار المصرية ووصل إلى دمشق فقوي به المرض وتوفـي فـي دمشـق فنقـل إلـى حمـص ودفـن بهـا وملك بعده ولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك المنصور إبراهيم المذكور‏.‏

وفـي هـذه السنـة بعـد فتوح دمشق وبعلبك استدعى الملك الصالح أيوب خدمة حسام الدين بن أبي علي إلى مصر وأرسل موضعه نائباً بدمشق الأمير جمال الدين بن مطروح ولمـا وصـل حسام الدين بن أبي علي إلى مصر استنابه الملك الصالح بها وسار الملك الصالح أيوب إلى دمشق ثم سار منها إلى بعلبك ثم عاد إلى دمشق ووصل إلى خدمة الملك الصالح أيوب بدمشق الملك المنصور محمد صاحب حماة والملك الأشرف موسى صاحب حمص فأكرمهما وقربهما ثم أعطاهما الدستور فعادا إلى بلادهما واستمر الملك الصالح بالشام حتى خرجت هذه السنة‏.‏

وفي هذه السنة توفي عماد الدين داود بن موشك بالكرك وكان جامعاً لمكارم الأخلاق‏.‏

  ثم دخلت سنة خمـس وأربعين وستمائة

وفيها عاد الملك الصالح نجم الدين أيوب من الشام إلى الديار المصرية‏.‏

وفيها فتح فخر الدين ابن الشيخ قلعتي عسقلان وطبرية والملك الصالح بالشام بعد محاصرتهما مـدة وكنـا قد ذكرنا تسليمهما إلى الفرنج في سنة إحدى وأربعين وستمائة فعمروهما واستمرتا بأيدي الفرنج حتى فتحتا في هذه السنة‏.‏

وفيهـا سلـم الأشـرف صاحـب حمـص شميميـس للملـك الصالح أيوب فعظم ذلك على الحلبيين لئلا يحصل الطمع للملك الصالح في ملك باقي الشام‏.‏

وفيهـا توفـي الملـك العادل أبو بكر ابن السلطان الملك الكامل بالحبس وأمه الست السوداء تعرف ببنت الفقيه نصر وكان مسجوناً من حين قبض عليه ببلبيس إلى هذه الغاية فكان مدة مقامه بالسجـن نحـو ثمـان سنيـن وكـان عمـره نحـو ثلاثيـن سنـة وخلف ولداً صغيراً وهو الملك المغيث فتح الدين عمر وهو الذي ملك الكرك فيما بعد ثم قتله الملك الظاهر بيبرس على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي هذه السنة توجه الطواشي مرشد المنصوري ومجاهد الدين أمير جندار من حماه إلى حلب وأحضرا بنت الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر صاحب حلب وهي عائشة خاتون زوج الملك المنصور صاحـب حمـاة وحضـرت معهـا أمهـا فاطمـة خاتـون بنـت السلطـان الملـك الكامـل ابـن الملـك العـادل ووصلـت إلـى حمـاة في العشر الأوسط من رمضان من هذه السنة أعني سنة خمس وأربعين وستمائة ووصلت في تجمل عظيم واحتفل للقائها بحماة احتفالاً عظيماً‏.‏

وفي هذه السنة توفي علاء الدين قراسنقر الساقي العادلي أحد مماليك الملك العادل بن أيوب وصارت مماليكه بالولاء للملك الصالح أيوب ومنهم سيف الدين قلاوون الصالحي الذي صار له ملك مصر والشام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيهـا توفـي عمـر بـن محمـد بـن عبـد اللـه المعـروف بالشلوبينـي بإشبيليـة كـان فاضلاً إماماً في النحو شـرح الجزولية وصنف في النحو غير ذلك وكان فيه مع هذه الفضيلة التامة بله وغفلة وكنيته أبـو علـي والشلوبينـي نسبـة إلـى شلوبيـن وهو حصن منيع من حصون الأندلس من معاملة سواحل غرناطـة علـى بحـر الـروم‏.‏

منـه عمـر الشلوبينـي المذكـور‏.‏

هـذا ما نص عليه ابن سعيد المغربي في كتابه الكبير المسمى بالمغرب في أخبار أهل المغرب في المجلدة الخامسة عشرة بعد ذكر غرناطة قال‏:‏ وقد وصف حصن شلوبين المذكور ومنه الشيخ أبو علي عمر الشلوبيني قال‏:‏ وقرأت عليه النحو وكان إمام نحاة أهل المغرب وكان في طبقة أبي علي الفارسي ومن هنا يتحقـق أن الذي نقله القاضي شمس الدين بن خلكان ومن تابعه أن الشلوبين هو الأبيض الأشقر بلغة أهل الأندلس وهم محض‏.‏

لعدم وقوفهم على كتاب المغرب في حلي أهل المغرب المذكور‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة

فيها أرسل الملك الناصر صاحب حلب عسكراً مع شمس الدين لؤلؤ الأرمني فحاصروا الملك الأشرف موسى بحمص مدة شهريـن فسلـم إليهـم حمـص وتعـوض عنها بتل باشر مضافاً إلى ما بيده من تدمر والرحبة ولما بلغ الملك الصالح نجم الدين أيوب ذلك شق عليه وسار إلى الشام لارتجاع حمص من الحلبيين وكان قد حصل له مرض وورم في مأبطه ثم فتح وحصل منه ناصور ووصل الملك الصالح إلى دمشق وأرسل عسكـراً إلـى حمـص مـع حسـام الديـن بـن أبـي علـى فخـر الديـن ابـن الشيـخ فنازلـوا حمـص وحصروها ونصبوا عليها منجنيقاً مغربياً يرمي بحجر زنتها مائة وأربعون رطلاً بالشامي مع عدة منجنيقات أخر وكان الشتاء والبرد قوياً واستمر عليهـا الحصـار واتفـق حينئـذ وصـول الخبـر إلـى الملـك الصالـح وهـو بدمشق بوصول الفرنج إلى جهة دمياط وكان أيضاً قد قوي مرضه ووصل أيضا نجم الدين الباذراي رسول الخليفة وسعى في الصلح بين الملك الصالح والحلبيين وأن تستقر حمص بيد الحلبيين فأجاب الملك الصالح إلى ذلك وأمر العسكر فرحلوا عن حمص بعد أن أشرفوا على أخذها‏.‏

ثـم رحـل الملـك الصالـح عن دمشق في محفة لقوة مرضه واستناب بدمشق جمال الدين بن يغمور وعزل ابن مطروح وأرسل حسام الدين بن أبي علي قدامه ليسبقه إلى مصر وينوب عنه بها‏.‏

وفيهـا فـي يـوم الخميـس السـادس والعشريـن مـن شـوال من السنة المذكورة أعني سنة ست وأربعين وستمائة توفي أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس المعروف بابن الحاجب الملقب جمـال الديـن وكـان والـده عمـر حاجبـاً للأميـر عـز الديـن بـن موسـك الصلاحـي وكان كردياً واشتغل ولده أبو عمرو المذكور في صغره بالقرآن والفقه على مذهب مالك بن أنس وبالعربية وبـرع فـي علومـه وأتقنهـا ثـم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها وأكب الخلق على الاشتغال عليه ثم عاد إلى القاهرة ثم انتقل إلى الإسكندرية فتوفي بها‏.‏

بأسنا بليدة بالصعيد وكان الشيخ أبو عمرو المذكور متفنناً في علوم شتى وكان الأغلب عليه علم العربية وأصول الفقه صنف في العربية مقدمته الكافية واختصـر كتـاب الأحكـام للآمـدي فـي أصـول الفقـه فطبـق ذكـر هذين الكتابين أعني الكافية ومختصره في أصول الفقه جميع البلاد خصوصاً بلاد العجم واكب الناس على الاشتغال بهما إلى زماننا هذا وله غيرهما عدة مصنفات‏.‏

وفيهـا أعنـي فـي سنـة سـت وأربعيـن وستمائة توفي عز الدين أيبك المعظمي في محبسه بالقاهرة وكان المذكور قد ملك صرخد في سنة ثمان وستمائة حسبما تقدم ذكره في السنة المذكورة وقال ابن خلكان‏:‏ أنه ملك صرخد في سنة إحدى عشرة وستمائة‏.‏

قال‏:‏ لأن أستاذه الملك المعظـم عيسـى ابـن الملك العادل أبي بكر بن أيوب‏.‏

حج في السنة المذكورة وأخذ صرخد من صاحبها ابن قراجا وأعطاها مملوكه أيبك المذكور والظاهر أن الأول أصح واستمرت في يـد أيبك إلى سنة أربع وأربعين وستمائة فأخذها الملك الصالح أيوب ابن الملك الكامل من أيبك المذكور وأمسك أيبك في السنة المذكورة وحمله إلى القاهرة وحبسه في دار الطواشي صواب واستمـر معتقـلاً بهـا حتـى توفـي معتقـلاً فـي هـذه السنـة فـي أوائل جمادى الأولى ودفن خارج باب النصـر فـي تربـة شمـس الدولـة ثـم نقـل إلـى الشـام ودفـن فـي تربـة كـان قـد أنشأهـا بظاهـر دمشق على الشرف الأعلى مطلة على الميدان الأخضر الكبير رحمه اللـه تعالـى هكـذا نقلـت ذلـك مـن وفيات الأعيان‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وأربعين وستمائة

ذكر ملك الفرنج دمياط ونزول الملك الصالح أشمون طناخ‏:‏ وفي هذه السنة سار ريد إفرنس وهو من أعظم ملوك الفرنج وريد بلغتهم هو الملك أي ملك إفرنس وإفرنس أمة عظيمة من أمم الفرنج وكان جمع ريد إفرنـس نحـو خمسيـن ألـف مقاتـل وشتى في جزيرة قبرس ثم سار ووصل في هذه السنة إلى دمياط وكان قد شحنها الملك الصالح بآلات عظيمة وذخائر وافرة وجعل فيها بني كنانة وهم مشهورون بالشجاعة وكان قد أرسـل الملـك الصالح فخر الدين ابن الشيخ بجماعة كثيرة من العسكر ليكونوا قبالة الفرنج بظاهر دمياط ولما وصلت الفرنج عبر فخر الدكن ابن الشيخ من البر الغربي إلى البر الشرقي ووصل الفرنج إلى البر الغربي لتسع بقين من صفر هذه السنة ولما جرى ذلك هربت بنو كنانة وأهل دمياط منها وأخلوا دمياط وتركوا أبوابها مفتحة فتملكها الفرنج بغير قتال واستولوا على ما بها من الذخائر والسلاحات وكان هذا من أعظم المصائب وعظم ذلك علـى الملـك الصالـح وأمر بشنق بني كنانة فشنقوا عن آخرهم‏.‏

ووصل الملك الصالح إلى المنصورة ونزل بها يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر هذه السنة وقد اشتد مرضه وهو السل والقرحة التي كانت به وقد أيس منه‏.‏

ذكر استيلاء الملك الصالح أيوب على الكرك وفـي هـذه السنـة سـار الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب من الكرك إلى حلب لما ضاقت عليه الأمور مستجيراً بالملك الناصر صاحب حلـب وكان قد بقي عند الناصر داود من الجوهر مقدار كثير قال‏:‏ كان يساوى مائة ألف دينار إذا بيع بالهـوان فلمـا وصـل إلـى حلـب سيـر الجوهـر المذكـور إلـى بغـداد وأودعـه عنـد الخليفـة المستعصم ووصل إليه خط الخليفة بتسليمه فلم تقع عينه عليه بعد ذلك ولما سار الناصر داود عن الكرك استناب عليها ابنه عيسى ولقبه الملك المعظم وكان له ولدان آخران أكبر من عيسـى المذكـور همـا الأمجـد حسـن والظاهـر شـاذي فغضـب الأخـوان المذكـوران مـن تقديـم أخيهما عيسى عليهما وبعد سفر أبيهما قبضا على أخيهما عيسى وتوجه الأمجد حسن إلى الملك الصالح أيوب وهو مريض على المنصورة وبذل له تسليم الكرك على إقطاع له ولأخيه بديـار مصـر فأحسـن إليـه الصالـح أيـوب وأعطاهمـا إقطاعاً أرضاهما وأرسل إلى الكرك وتسلمهـا يـوم الاثنيـن لاثنتـي عشـرة ليلـة بقيـت مـن جمـادى الآخـرة من هذه السنة وفرح الملك الصالح بالكرك فرحاً عظيماً مع ما هو فيه من المرض لما كان في خاطره من صاحبها‏.‏

  ذكر وفاة الملك الصالح أيوب

وفـي هـذه السنـة توفـي الملـك الصالـح نجـم الديـن أيـوب ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكـر بن أيوب في ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة مضت من شعبان هذه السنة أعني سنة سبع وأربعين وستمائة وكانت مدة مملكته للديار المصرية تسع سنيـن وثمانيـة أشهـر وعشريـن يومـاً وكان عمره نحو أربع وأربعين سنة وكان مهيباً عالي الهمة عفيفاً طاهر اللسان والذيل شديد الوقار كثير الصمت وجمع من المماليك الترك ما لم يجتمع لغيره من أهل بيته حتى كان أكثر أمراء عسكره مماليكه ورتب جماعة من المماليك الترك حول دهليزه وسماهم البحرية وكان لا يجسر أن يخاطبه أحد إلا جواباً ولا يتكلم أحد بحضرتـه ابتـداء وكانـت القصـص توضـع بيـن يديـه مـع الخدام فيكتب بيده عليها وتخرج للموقعين وكان لا يستقل أحد من أهل دولته بأمر من الأمور إلا بعد مشاورته بالقصص وكان غاوياً بالعمارة بنى قلعة الجزيرة وبنى الصالحية وهي بلدة بالسائح وبنى لـه بهـا قصـوراً للتصيـد وبنـى قصـراً عظيمـاً بيـن مصـر والقاهـرة يسمـى وكانت أم الملك الصالح أيوب المذكور جارية سوداء تسمى ورد المنى غشيها السلطان الملك الكامـل فحملـت بالملـك الصالـح وكـان للملك الصالح ثلاثة أولاد أحدهم فتح الدين عمر توفي في حبـس الصالـح إسماعيـل وكـان قـد توفـي ولده الآخر قبله ولم يكن قد بقي له غير المعظم توران شاه بحصن كيفا ومات الملك الصالح ولم يوص بالملك إلى أحد فلما توفي أحضرت شجرة الـدر وهـي جارية الملك الصالح فخر الدين ابن الشيخ والطواشي جمال الدين محسناً وعرفتهما بموت السلطان فكتموا ذلك خوفاً من الفرنج وجمعـت شجـر الـدر الأمـراء وقالـت لهم‏:‏ السلطان يأمركم أن تحلفوا له ثم من بعده لولده الملك المعظم توران شاه المقيـم بحصـن كيفـا وللأميـر فخـر الديـن ابن الشيخ بأتابكية العسكر وكتب إلى حسام الدين ابن أبي علي وهو النائب بمصر بمثل ذلك فحلفت الأمراء والأجناد والكبراء بالعسكر وبمصر وبالقاهرة على ذلك فـي العشر الأوسط من شعبان هذه السنة وكان بعد ذلك تخرج الكتب المراسم وعليها علامة الملـك الصالح وكان يكتبها خادم يقال له السهيلي فلا يشك أحد في أنه خط السلطان فأرسل فخر الدين ابن الشيخ قاصداً لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا ولما جرى ذلك شاع بين النـاس مـوت السلطـان ولكـن أربـاب الدولـة لا يجسـرون أن يتفوهـوا بذلـك وتقدم الفرنج عن دميـاط إلـى المنصـورة وجـرى بينهـم وبيـن المسلميـن فـي مستهـل رمضـان مـن هـذه السنـة وقعة عظيمة استشهد فيها جماعة من كبار المسلمين ونزلت الفرنج بحر مساح ثم قربوا من المسلمين ثم إن الفرنـج كبسـوا المسلميـن علـى المنصـورة بكرة الثلاثاء لخمس مضين من ذي القعدة وكان فخر الدين يوسف ابن الشيخ صدر الدين ابن حمويه في الحمام بالمنصورة فركب مسرعاً وصادفه جماعة من الفرنج فقتلوه وكان سعيداً في الدنيا ومات شهيداً‏.‏

ثم حملت المسلمون والترك البحرية على الفرنج فردوهم على أعقابهم واستمرت بهم الهزيمـة وأما الملك المعظم توران شاه فإنه سار من حصن كيفا ووصل إلى دمشق في رمضان من هـذه السنـة وعّيـد بهـا عيـد الفطـر ووصل إلى المنصورة يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة من هذه السنة أعني سنة سبع وأربعين وستمائة ثم اشتد القتال بين المسلمين والفرنج براً وبحراً ووقعت مراكب المسلمين على الفرنج وأخـذوا منهـم اثنيـن وثلاثيـن مركبـاً منهـا تسـع شوانـي فضعفت الفرنج لذلك وأرسلوا يطلبون القدس وبعض الساحل وأن يسلموا دمياط إلى المسلمين فلم تقع الإجابة إلى ذلك‏.‏

ذكر غير ذلك وفي هذه السنة وقع الحرب بين صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ وبين الملك الناصر صاحب حلب فأرسل إليه الملك الناصر عسكراً والتقوا مع المواصلة بظاهر نصيبين فانهزمت المواصلة هزيمـة قبيحـة واستولـى الحلبيـون على أثقال لؤلؤ صاحب الموصل وخيمه وتسلم الحلبيون نصيبين وأخذوها من صاحب الموصل ثم ساروا إلى دارا فنازلوها وتسلموها وخربوها بعد حصار ثلاثة أشهر ثم تسلموا قرقيسيا وعادوا إلى حلب‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة

ذكر هزيمة الفرنج وأسر ملكهم لما أقام الفرنج قبالة المسلمين بالمنصورة فنيت أزوادهم وانقطع عنهم المدد من دميـاط فـإن المسلمين قطعوا الطريق الواصل من دمياط إليهم فلم يبق لهم صبراً على المقام فرحلوا ليلة الأربعاء لثلاث مضين من المحرم متوجهيـن إلـى دميـاط وركـب المسلمـون أكتافهـم ولمـا استقـر صباح الأربعاء خالطهم المسلمون وبذلوا فيهم السيف فلم يسلم منهم إلا القليل وبلغت عدة القتلـى من الفرنج ثلاثين ألفا على ما قيل وانحاز ريد إفرنس ومن معه من الملوك إلى بلد هناك وطلبـوا الأمـان فأمنهم الطواشي محسن الصالحي ثم احتيط عليهم وأحضروا إلى المنصورة وقيد ريد إفرنس وجعل في الدار التي كان ينزلها كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان ووكل به الطواشي صبيح المعظمي ولما جرى ذلك رحل الملك المعظم بالعساكر من المنصورة ونزل بفار ذكر مقتل الملك المعظم وفـي هـذه السنـة يـوم الاثنين لليلة بقيت من المحرم قتل الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب وسبب ذلك‏:‏ أن المذكور أطـرح جانـب أمـراء أبيـه ومماليكـه وكـل منهـم بلغـه عنـه مـن التهديد والوعيد ما نفر قلبه منه واعتمد على بطانته الذين وصلوا معه من حصن كيفا وكانوا أطرافاً أراذل فاجتمعـت البحريـة علـى قتلـه بعـد نزولـه بفارسكـور وهجمـوا عليـه بالسيـوف وكان أول من ضربه ركن الدين بيبرس الذي صار سلطاناً فيما بعد على ما سنذكره إن شاء اللـه تعالـى فهـرب الملك المعظم منهم إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور على ما تقدم ذكره فأطلقوا في البرج النار فخرج الملك المعظم من البرج هارباً طالبـاً البحـر ليركـب فـي حراقتـه فحالـوا بينه وبينها بالنشاب فطرح نفسه في البحر فأدركوه وأتموا قتله في نهار الإثنين المذكور وكانت مدة إقامته في المملكة من حين وصوله إلى الديار المصرية شهرين وأياماً‏.‏

ولما جرى ذلك اجتمعت الأمراء واتفقوا على أن يقيموا شجرة الدر زوجة الملك الصالح في المملكـة وأن يكـون عـز الديـن أيبـك الجاشنكيـر الصالحـي المعـروف بالتركمانـي أتابك العسكر وحلفـوا علـى ذلـك وخطـب لشجـرة الـدر علـى المنابـر وضربـت السكـة باسمهـا وكـان نقـش السكة المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة الملك المنصور خليل وكانـت شجـرة الـدر قد ولدت من الملك الصالح ولداً ومات صغيراً وكان اسمه خليل فسميت والدة خليل وكانت صورة علامتها على المناشير والتواقيع والدة خليل ولمـا استقـر ذلـك وقـع الحديـث مـع ريـد إفرنس في تسليم دمياط بالإفراج عنه فتقدم ريد إفرنس إلى من بها من نوابه في تسليمها فسلموها وصعد إليها العلم السلطاني يوم الجمعة لثلاث مضين من صفر من هذه السنة أعني سنـة ثمـان وأربعيـن وستمائـة وأطلـق ريـد إفرنـس فركـب في البحر بمن سلم معه نهار السبت غد الجمعة المذكورة وأقلعوا إلى عكا ووردت البشرى بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار وفي واقعة ريد إفرنس المذكورة يقول جمال الدين يحيى بن مطروح أبياتاً منها‏:‏

قل للفرنسيس إذا جئته مقال ** صدق عـن قـؤول نصيـح

أتيت مصراً تبتغي ملكها ** تحسب أن الزمر يا طبـل ريـح

وكل أصحابك أوردتهم ** بحصـن تدبيـرك بطن الضريح

خمسون ألفاً لا يرى منهـم ** غير قتيل أو أسير جريـح

وقل لهم إن أضمروا عودة ** لأخـذ ثـار أو لقصـد صحيـح

دار ابن لقمان على حالها ** والقيد باقي والطواشي صبيح

ثـم عـادت العساكـر ودخلـت القاهـرة يـوم الخميـس تاسـع صفر من الشهر المذكور وأرسل المصريون رسولاً إلى الأمراء الذين بدمشق في موافقتهم على ذلك فلم يجيبوا إليه وكان الملك السعيد ابن الملك العزيز عثمان ابن الملك العادل صاحب الصبيبة قد سلمها إلى الملك الصالح أيوب فلما جرى ذلك قصد قلعة الصبيبة فسلمت إليه وكان من الملك السعيد ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر ملك الملك المغيث الكرك كان الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب قد أرسله الملك المعظم توران شاه لما وصل إلى الديار المصرية إلى الشوبك واعتقله بها وكان النائب على الكرك والشوبـك بـدر الديـن الصوابـي الصالحـي فلمـا جرى ما ذكرناه من قتل الملك المعظم وما استقر عليه الحال بادر بدر الدين الصوابي المذكور فأفرج عن المغيث وملكه القلعتين الكرك والشوبك وقام في خدمته أتم قيام‏.‏

ذكر استيلاء الملك الناصر صاحب حلب على دمشق ولما جرى ما ذكرناه ولم يجب أمراء دمشق إلى ذلك كاتب الأمراء القيميرية الذين بها الملك الناصر يوسف صاحب حلب ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطـان الملك الناصر صلاح الدين فسار إليهم وملك دمشق ودخلها في يوم السبت لثمان مضين من ربيـع الآخـر مـن هـذه السنـة ولمـا استقـر الناصر المذكور في ملك دمشق خلع على جمال الدين بن يغمور وعلى الأمراء القيمرية به وأحسن اليهم واعتقل جماعة من الأمراء مماليك الملك الصالح وعصت عليه بعلبك وعجلون وشميميس مدة مديدة ثم سلمت جميعها إليه ولما ورد الخبر بذلك إلى مصر قبضوا على من عندهم من القيمرية وعلى كل من اتهم بالميل إلى الحلبيين‏.‏